المدرسة السلوكية تطورها ونشأتها

     أولا- مدخل عام: نشأة علم النفس و تطوره
       لقد نشأ علم النفس أول ما نشأ كفرع من الفلسفة,ويمكن التمييز بين أربعة مراحل في تطور هذا العلم تبعا للموضوع الذي اتخذه مادة لدراسته في كل مرحلة:
1- المرحلة الأولى:(القرنان السابع عشر و الثامن عشر):
      "تمحور اهتمام علم النفس في هذه المرحلة على دراسة العلاقات التي تربط بين الجسد والروح، إذ كان ينطلق من الثنائية الفلسفية التي تأكد على وجود روح مستقلة عن الجسد و تعتبر أن العلاقات التي تقوم بينها هي علاقات بين وحدتين متميزتين بعضهما عن بعض تميزا تاما. تمثلت هذه الثنائية الفلسفية عند رينيه ديكارت R .DESCARTES (1650-1596) بوجه خاص في بداية القرن السابع عشر، كما تمثلت بعد ذلك عند العديد من فلاسفة القرن الثامن عشر" .



لقد مارست بعض النظم الفلسفية في هذه المرحلة، لاسيما بعض نظريات المعرفة, دورا مبشرا في نشأة علم النفس الموضوعي, فيما مارست نظم فلسفية أخرى على علم النفس تأثيرا معوقا.
ومن بين المدارس الفلسفية التي مهدت لنشأة علم النفس العلمي المدرسة التجريبية الإنكليزية      l’empirisme .فقد رفض التجريبيون توكيد ديكارت على وجود أفكار"فطرية" في العقل، ورأوا أن كل ما في الخبرة يتأتى من الإحساسات"  .
وفي الوقت الذي كان فيه ديكارت ينشر مذهبه؛ ظهرت في إنجلترا مدرسة تسمى "المدرسة الترابطية"، مؤسسها جون لوك (1754-1632), و من أنصارها البارزين "هارتلي" (1757-1705) و"هيوم" (1776-1711) و "ستيوارت مل" (1873-1806) و "هربرت سبينس" (1820-1903)؛ وقد كان لهذه المدرسة أثر كبير في توجيه الدراسات النفسية حتى نهاية القرن الماضي.
و "من المسلمات الأساسية لهذه المدرسة أن الإنسان يولد و عقله صفحة بيضاء تنقش عليها الخبرات الحسية ما تريد. فليس قبل الخبرة في العقل شيء...فالإحساسات هي عناصر العقل ووحداته وذراته، غير أن هذه الإحساسات تكون في أول الأمر غير مترابطة و لا منظمة...فنشأ من هذا الترابط العمليات العقلية جميعا: الإدراك و التصور و التخيل و التفكير و الابتكار... والترابط عملية ميكانيكية تشبه الجاذبية في العالم المادي" .
2 - المرحلة الثانية (القرن التاسع عشر):
      لقد حاول علم النفس في هذه المرحلة أن ينفصل عن الفلسفة و يتحول إلى علم تجريبي مستقل بذاته، إذ كان العلماء الفيزيولوجيون يسيرون في بحوثهم على نمط آخر، إذ كانوا يوجهون إلى الطبيعة أسئلة خاصة، ثم يجرون الملاحظات و التجارب للوصول إلى أجوبة عن هذه الأسئلة، وقد أدى بهم هذا المنهج التجريبي إلى الكشف عن الكثير من الحقائق و المبادئ: كالكشف عن الدورة الدموية و عن مناطق المخ المسؤولة على حركة الإنسان و الحيوان.
     "كما مارست أفكار الفلاسفة الترابطيين تأثيرات مباشرة على علماء النفس الأوائل، و بالأخص منهم "فوندت" W.WUNDT (1920-1832), الذي يعد "أبا" لعلم النفس التجريبي. لقد أسس في عام 1879 في مدينة "لايبزيغ" المختبر الأول لعلم النفس, والحال أن المسألة الأساسية في علم النفس كما يراها "فوندت" في مؤلفه "عناصر علم النفس الفيزيولوجي"(1874) تتمثل في تحليل العمليات الواعية إلى عناصر، وفي وصف الكيفية التي تترابط بها هذه العناصر و في تحديد القوانين التي تفسر هذه الترابطات.
استخلص" فوندت" من خلال منهج الاستبطان، أو وصف الخبرة الذاتية، أن المشاعر الإنسانية كلها تمثل مزيجا من ثلاثة عناصر أساسية: السرور و يقابله الكدر والشدة ويقابلها الاسترخاء والاستثارة   ويقابلها الهدوء. وتتكون المشاعر الإنسانية بناء على ذلك؛ ومن امتزاج هذه العناصر الوجدانية الثلاثة بدرجات مختلفة" .
"و على الرغم من أن نظرية "فوندت" تبدو معقولة في صورتها السابقة إلا أن اعتمادها على طريقة الاستبطان... جعل من الصعب حسم العديد من القضايا الخلافية التي تتصل ببناء الخبرة الشعورية، لهذا ظهرت الحاجة لطرائق أخرى يمكن من خلالها حل هذه الخلافات المتصلة بالمشاعر الإنسانية والإحساسات.
و على ذلك قام "ج.م.كاتل" (1944-1860) و هو أحد علماء النفس الأمريكيين... وبذلك وضع الأسس الأولى لدراسات زمن الرجع temps de réaction  الذي يفصل بين التنبيه والاستجابة. وهنا يتضح اهتمام "كاتل" بالسلوك الذي يمكن قياسه بطريقة موضوعية, أكثر من اهتمامه بالخبرة الاستبطانية.
و في الوقت نفسه تقريبا درس "هـ.إبنغهوس"(1909-1850) العمليات العقلية العليا مثل التذكر دراسة تجريبية مستخدما نفسه كمبحوث، وقام بطريقة منظمة بدراسة أثر الزمن الممتد بين التعلم والاستعادة على تذكره لما سبق أن تعلمه. و كان تركيز اهتمامه الأساسي على مقدار ما يمكن تذكره من دون الاهتمام بالخبرة الذاتية للتذكر".
و بهذه المحاولات التي يغلب عليها الطابع التجريبي بدأ تحول الاهتمام في علم النفس من الخبرة الذاتية (الاستنباطية) إلى السلوك الموضوعي.
3-المرحلة الثالثة (النصف الأول من القرن العشرين):
       لقد تحدد علم النفس وتطور في هذه المرحلة، باعتباره دراسة علمية للسلوك، كما تميزت هذه المرحلة بظهور المدارس أوالتيارات النظرية في علم النفس "ففي ألمانيا ظهرت مدرسة الجشطلت GESTALT ، و أبرز ممثليها ثلاثة هم: "م.فرتهايمر" (1942-1880) و "ك.كوفكا"(1949-1856),و"كوهلر"  (1967-1817). أبرزت هذه المدرسة قوانين أساسية في الإدراك مثل: ثبات الإدراك والتنظيم الإدراكي والأوهام الإدراكية.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد ظهرت المدرسة الوظيفية و أبرز ممثليها "و.جيمس"(1910-1842)و "س.هول"(1924-1844) و "ر. وودورث"(1962-1829), وحاول الوظيفيون دراسة العقل لا من حيث مكوناته وعناصره، ولكن من حيث وظائفه التي تؤدي إلى التكيف مع البيئة".
      كما تميزت هذه المرحلة على الأخص بنشأة المدرسة السلوكية و هذا هو مربط الفرس بالنسبة لموضوعنا والمعنون ب"المدرسة السلوكية: نشأتها وتطورها".
ف "جون برودوس واطسون" (9 يناير 1878-25 سبتمبر 1958)، سيكولوجي أمريكي ومؤسس المدرسة السلوكية في علم النفس، بدأ دراسته النفسية في جامعة شيكاغو وحصل على الدكتوراه من هذه الجامعة سنة 1903، وعين فيها مساعدا لعلم النفس التجريبي إلى أن أصبح أستاذا لعلم النفس التجريبي والمقارن ومديرا لمعمل علم النفس".
لقد "أكدت المدرسة السلوكية على استحالة إنشاء علم النفس إنشاء علميا على أساس دراسته معطيات الوعي, واعتبرت أن السلوك هو فقط الذي سيشكل الأساس الموضوعي لقيام علم النفس العلمي.
وبناء على ذلك دعت المدرسة السلوكية إلى إعادة النظر في علم النفس برمته وإلى ضرورة أن يستند علم النفس إلى دراسة العناصر الموضوعية التي يمكن ملاحظتها؛ هذه العناصر التي تتمثل في المثيرات وهو ما يمكن الرمز إليه بالطريقتين التاليتين:
 (م)          كائن حي          س أو: س = د(م) الاستجابة دالة أو محصلة المثير."
"يدين علم النفس المعاصر للمدرسة السلوكية بالعديد من أفكاره, ومنها الفكرة القائلة إن كل ما يمكن أن نعرفه عن نفسانية الكائن الحي يجب أن يستند إلى ما يمكن أن نعرفه عن سلوكه.
على ذلك نشأ ضمن المدرسة السلوكية اتجاه جديد سمي بالسلوكية المحدثة (تولمان TOLMAN وهول HULL...) وسعى هذا الاتجاه إلى تضمين مفهوم السلوك بعض العمليات الذهنية...و بمعنى آخر يمكن القول بأن السلوك لا يشكل نتيجة بسيطة لمثيرات المحيط، بل يشكل محصلة التفاعل بين الكائن الحي والمحيط.
في الوقت الذي ساد فيه الاتجاه السلوكي في الولايات المتحدة الأمريكية وتركز فيه اهتمام معظم علماء النفس على دراسة الإحساس و الإدراك و التعلم و الذكاء، ظهر اتجاه مغاير يركز اهتمامه على الجانب اللاوعي من الحياة العقلية تمثل في التحليل النفسي على يد الطبيب النفسي النمساوي "س.فرويد" (1939-1856)،  وأهم ما يسلم به هذا لاتجاه هو وجود عمليات لاواعية، أي أفكار ومخاوف ورغبات لا يكو ن الشخص على وعي بها...و تحريم هذه الرغبات أومنعها فقط من وعي إلى اللاوعي، حيث تظل تؤثر في سلوك الأشخاص." 
4- المرحلة الرابعة (المرحلة المعاصرة):
      يتحدد علم النفس في هذه المرحلة بأنه العلم الذي يدرس سلوك الكائنات الحية بمعناه الموسع عن طريق نوعين متكاملين من المتغيرات أو العوامل: يتعلق الأول بمتغيرات الكائن الحي الذي نلاحظ تصرفاته ويتعلق النوع الثاني بالمتغيرات الوضعية التي يوجد فيها الكائن الحي.
      وتتميز المرحلة المعاصرة من تطور علم النفس بظهور الاتجاه المعرفي كرد فعل على ضيق الإطار النظري للاتجاه السلوكي؛ فالمعرفة عبارة عن معالجة عقلية للمعلومات من خلال عملية تتحول بها المدخلات الحسية ويتم ترميزها وتخزينها للاستخدامات اللاحقة.
                             
ثانيا: نشأة المدرسة السلوكية
1-تمهيد: الحاجة إلى ظهور مدارس علم النفس.
      "لم يكن علماء النفس حتى مطلع هذا القرن (القرن العشرون) يعملون أكثر من جمع وقائع عامة من مجالات محدودة: مجال الخبرات الحسية والفروق الفردية, ذكاء الحيوان, ونمو الطفل, و الشخصية السوية و الشاذة. ولم يكن هناك خطة عمل للبحث، أوروابط يجمع بين هذه المعلومات المتناثرة، بل لم يكن هنا اتفاق عام بين العلماء على تعريف علم النفس، ومن ثم بدت الحاجة إلى لم الشمل و جمع هذا النثار من المعرفة السيكولوجية في كل موحد متكامل يزيده وضوحا و ثراء و يكون أساسا لتوحيد البحوث في المستقبل، وقد أدت هذه الحاجة إلى ظهور المدارس السيكولوجية" ، فظهور هذه الأخيرة لم يكن من باب الترف العلمي، بل كان حاجة ملحة لعلماء النفس بغية الاقتراب أكثر من العلوم الحقة، "فلقد أصبح للحركة التي بدأها "فونت" نتائجها المحتومة، فإن هذا الأخير لم يقنع بما حققه شخصيا من نتاج هائل، فأسس مدرسة وشبع عددا من المشتغلين بمثله الخاصة، ونتج عن ذلك أن تاريخ علم النفس أصبح عليه أن يأخذ في الاعتبار مدارس وفرق المشتغلين أكثر من اهتمامه بالأفراد المنعزلين" .
       فجل ما توصل إليه علم النفس قبل المرحلة الثالثة أي إلى حدود 1900م كان محض اجتهادات أفراد معينين و في مختبرات خاصة، وحتى في الحالات التي كان يشرف فيها قائد على مختبر مجموعة أفراد فإن هؤلاء لم يكونوا يرقون إلى مستوى مدرسة أو تيار في علم النفس، "فالمدرسة تحتاج إلى قائد أو على الأقل إلى مؤسس فرد لديه القدرة على أن يختط طريقا جديدا، وأن يجعل الآخرين يتبعونه" . ولكل مدرسة الحدود المناسبة، ومنهجها الخاص ومجال عملها الخاص، ولكن من الطبيعي ومن المحتم أن تسعى لتطوير منهجها و توسيع مجالها".
2-مسوغات ظهور السلوكية:
      كما سبقت الإشارة إلى ذلك فإن "ج.واطسون" في سعيه لتأسيس مدرسة في علم النفس لم  ينطلق من الصفر بل سبقته مجهودات علماء آخرين كان لهم الفضل فيما انتهى إليه، إلا إن هذه المجهودات لم تكن من الوضوح إلى الدرجة التي تجعل أصحابها يثورون على تراث علم النفس السابق لهم؛ كما هو الشأن مع "واطسون" الذي يحاول تجاوز هذا التراث، " فقد انعدمت الثقة في الاستبطان في أمريكا  منذ البداية وتوافرت تبعا لذلك الرغبة في قياس موضوعي خصوصا فيما يتعلق بدراسة الفروق الفردية. ولقد كانت السلوكية هي التطور المتطرف لهذا الاتجاه. لقد كان مجيئها بشيرا، لا بالخصائص العامة لعلم النفس الأمريكي فحسب، بل بالاتجاه أيضا نحو مزيد من التأكيد على السلوك حتى تعريف علم النفس، ووضع أهدافه، فلقد عرفه "ماكدوجل" سنة 1905م، (وقد أصبح فيما بعد من مناهضي السلوكية) بأنه "العلم الموضوعي لسلوك الكائنات الحية" بينما قال "بلسبوري" سنة 1911 في كتابه "أسس علم النفس"، وهو من المراجع الأكثر ذيوعا في أمريكا بأن علم النفس هو علم السلوك"
      إن دعاة السلوكية الأوائل الذين مهدوا الطريق لظهور المدرسة السلوكية حاولوا جهد المستطاع جعل علم النفس يقترب من العلوم الحقة التي تدرس الماديات المحسوسة بمناهج تعتمد الملاحظة – الفرضية – التجربة والتأويل ثم بناء النظرية؛ فقد سعى هؤلاء إلى جعل الثقافة النفسية كأي دراسة علمية يجب أن تركز جهودها وتحصر نطاق تحليلها في تلك الظواهر الخارجية التي تعبر عن نفسها في نطاق المعرفة الحسية، ومن ثم فهي قابلة لأن تخضع للتحليل الكمي كما يحدث في نطاق أي علم من العلوم الطبيعية .
      و لكي نستطيع أن نفهم طبيعة تطور العلوم السلوكية فلنتصور فريقين كل منهما يحفر نفقا في الجبل دون علم الفريق الآخر؛ في جانب علماء الاجتماع وفي جانب آخر علماء النفس، وفجأة وبجهود الفريقين تتلاقى وتتقاطع في نقطة واحدة و هي المدرسة السلوكية التي "لم تنجم كاملة النمو و لكنها نمت تدريجيا في حضن علم النفس، إن لقيام السلوكية فيما بين 1912م و عام 1914م أسبابا مهيئة وأخرى مثيرة؛ أما الأسباب المهيئة فهي مساهمة الطرق الموضوعية في دراسة السلوك وازديادها المستمر، أما الأسباب المثيرة فهي الوضع الغامض لهذه السيكولوجيا الموضوعية ضمن إطار  التعريف الذي كان مقبولا في ذلك الحين لعلم النفس".
3- تعريف السلوكية:
       كما سبقت الإشارة إلى ذلك في المدخل السابق، فإن المرحلة الثالثة من مراحل تطور علم النفس (النصف الأول من القرن العشرين)، عرفت ظهور مدارس عديدة،كما تميزت بكثرة التيارات النظرية المصاحبة لكل مدرسة، ففي هذه المرحلة ظهرت كل من الجشطلت بألمانيا والمدرسة الوظيفية بأمريكا و "تميزت هذه المرحلة بالأخص بنشوء السلوكية التي أسسها عالم الحيوان الأمريكي "ج.واطسون" J .WATSON (1958-1878), وأعلن عنها في بيان أصدره عام 1913م. أكدت المدرسة السلوكية على استحالة إنشاء علم النفس إنشاء علميا على أساس دراسة معطيات الوعي، واعتبرت أن السلوك هو فقط الذي يشكل الأساس الموضوعي لقيام علم النفس العلمي، ذلك أن السلوك وحده -وليس الوعي- يمكن أن يخضع للملاحظة الموضوعية"  وبالتالي فإن هذه المدرسة "تنظر إلى الكائن الحي نظرتها إلى آلة ميكانيكية معقدة، لا تحركه دوافع موجهة نحو غاية، بل مثيرات فيزيقية تصدر عنها استجابات عضليةوغديةمختلفة.لذا يجب أن يقتصر موضوع علم النفس على دراسة هذه الاستجابات الموضوعية الظاهرة، عن طريق الملاحظة الموضوعية البحتة، أي دون الإشارة إلى ما يخبره الفرد من حالات شعورية أثناء الملاحظة أو إجراء التجارب عليه، ثم إن هذه المدرسة تغلو في توكيد أثر البيئة و التربية في نمو الفرد".
       إذن فالسلوكية كمدرسة من مدارس علم النفس ظهرت سنة 1913م بأمريكا على يد "واطسون" الذي انتقل من علم نفس الحيوان إلى حقل سيكولوجية الأطفال؛ وهذا لا يعني بالمطلق أنه أنشأ هذه المدرسة انطلاقا من فراغ أو بمجهود فردي، بل سبقه إلى ذلك علماء آخرون، فهو يعلن بنفسه سنة 1912م أن السلوكيين انتهوا "إلى أنه لا يمكن بعد أن يقنعوا بالعمل في اللامحسوسات والأشياء الغامضة، وقد صمموا على إحدى اثنتين؛ إما أن يتخلوا عن علم النفس أو يحيلوه علما طبيعيا" . وبالتالي فواطسون يعترف بمجهودات من سبقوه ويعلن قرارهم الحاسم الذي لا يعدو أن يكون أحد اختيارين؛ فإما إدخال علم النفس ضمن العلوم الطبيعية، وهم بذلك يلحون بجعل موضوع هذا العلم قابل للقياس، لذلك ركزوا على "السلوك" كموضوع للعلم بدل "النفس" و "الروح" اللامحسوسين، واختيار منهج علمي يخضع السلوك للدراسة؛  وبذلك تجاوز الاستبطان كمنهج، وإما التخلي عن علم النفس. لقد كان من الطبيعي أن يرفض واطسون -وهو الاختصاصي في علم الحيوان- منهج الاستبطان. فهذا منهج لا قيمة له طبعا في مجال دراسة السلوك الحيواني."فهل يمكن دراسة معطيات الوعي عند الفأر مثلا؟ و هل يمكن للاستبطان أن يؤكد وجود هذا الوعي أو ينفيه؟"
       يمكن أن نستشف مما سبق أن السلوكية قد ثارت على ما قبلها إذ كان مدار دراستها "هو رفض  الأساليب التقليدية في التحليل النفسي، تلك الأساليب التي تنبع أساسا من مفهوم التأمل الباطني حيث أن هذه المنهجية بما تقوم عليه من ذاتية في جمع المعلومات، لا يمكن أن تقود إلى اكتشاف القواعد الوضعية التي تحكم التصرف أو السلوك الفردي أو الجماعي."  فالمدرسة السلوكية إذن تعتمد نظرة آلية في فهم السلوك البشري و ترى في الحوادث النفسية حوادث فيزيولوجية تخضع لآلية المؤثرات التي تستتلي ردود الفعل" . ولا يعني بأي وجه من الأوجه أن السلوكيين قد أهملوا الشعور وتركوه خلف ظهورهم،  دون أي اعتبار؛ فهذا لا يقول به السلوكي بالمطلق لأن الشعور حالة نفسية لا محيد عنها لكل الكائنات الحية " وحتى لو نظرنا إلى فهم السلوك على أنه الغاية القصوى لعلم النفس فإن الشعور يجب أن يظل مضطلعا بدور هام في هذا العلم. ونعني بالشعور انتباه الإنسان لأفعاله الخاصة و ما يسبقها...فالشعور لأول وهلة عامل مهم في فهم السلوك وموضوع ممتع للبحث في حد ذاته... وفي الدور الحاضر من تقدم علم النفس، يبدو من الخير أن نجعل الشعور تابعا للسلوك، فعلم النفس هو علم السلوك...و السلوك إنما يدرس من خلال شعور الفرد و بملاحظة خارجية"

ثالثا : تطور السلوكية
1-"ثورندايك" و علم نفس الحيوان:
      لقد كان لأعمال كل من"سبنسر" و "داروين", وخصوصا نظرية التطور دورا رائدا في وضع أسس علم نفس الحيوان، فهكذا نجد "سبولدنج" قد أدخل المنهج التجريبي في هذا الميدان لتفسير الأفعال الأكثر تعقيدا للحيوان, أما "ج.هـ.شنايدر" فقد اختص بدراسة العصافير ليخلص أن الفرد يلخص تطور النوع, كما درس"فابر" و" بوك" الحشرات,وكذلك درس"جاك لوب" الحيوانات الأدنى ليقدم سنة 1896 نظريته عن "الانتحاءات"  tropisms التي أكدت النواحي الآلية لسلوك الحيوان" وفي نهاية المرحلة الثانية تماما قي عام 1898م اتخد "ثورندايك" خطوة جبارة بإدخال بعض الحيوانات العليا إلى المعمل وإجراء التجارب عليها كما لو كانت كائنات إنسانية، وأجريت هذه التجارب الكلاسيكية,على القطط و الكلاب و الدجاج."
      فبالرغم من اهتمام علماء البيولوجيا منذ أيام"دارون"بسلوك الحيوان فإننا نستطيع نسبة فضل هذه الدراسات على المختبر النفسي ل"ثورندايك"...الذي أجرى تجاربه على الحيوانات من أجل دراسة غرائزها و تعلمها"  فقد تبين مثلا أن الفرخ الحديث الفقس إذا وضع فوق صندوق منخفض يقفز على الأرض بغير تردد، فإذا وضع فوق صندوق يرتفع بضع بوصات فإنه يتردد, أما إذا وضع فوق صندوق ارتفاعه قدم فإنه لا يقفز مطلقا."
       و من هنا خلص "ثورندايك" أن الفرخ قد استجاب إلى الارتفاع، (أي البعد الثالث) دون أن تكون له فرصة تعلم هذه الاستجابة؛ إن التجارب التي اعتمد عليها هذا العالم في دراسة التعلم استخدم فيها المتاهات و أقفاص الخداع، " لقد كان يفصل الفرخ عن جماعته و يضعه في علبة مغلقة لها مخرج دائري متعرج واحد، ولقد كان الفرخ يركض جائبا داخل العلبة هاهنا و هناك حتى يجد المخرج وينظم إلى جماعته، وحين تتكرر العملية كان الحيوان يجد مخرجه بسهولة متزايدة حتى يستطيع بعد عدد من المحاولات أن يتجه إلى المخرج حالا ." وقد نوع "ثورندايك" خلال تجاربه الحيوانات ليطبقها على الأسماك و الكلاب و القطط ثم القردة. "واعتقد أن نتائجه تشير إلى انعدام ما يمكن أن يسمى: "استبصارا" في طبيعة الميكانيزمات و نتائج الحركات التي أعطت للحيوان في النهاية حريته؛ وكان منحى التعلم يهبط ببطء ولم يظهر في الانحدار الفجائي الذي يحدث في حالة الإنسان عندما يفهم الأفراد السبب في ضرورة القيام بحركات دون أخرى وكانت حركات الحيوان هذه هي السمة المميزة لما سماه "لويد مورجان" فيما بعد بطريقة "المحاولة و الخطأ" في التعلم، وهي نفس الطريقة التي يتبعها معظم  الناس في تعلم ركوب الدراجة" . وبذلك يفند كون الحيوانات تتعلم بالملاحظة و بالإمعان بل بالفعل؛ فهي تصل إلى الموقف بعد مجموعة من الاستجابات الحركية، وبعد عملية عمياء متدرجة كانت تستبعد الاستجابات الخاطئة وتقوي الاستجابة الموفقة وتلصق تماما بالموقف، فالمحاولة و الخطأ هما منهج تعلم الحيوان" . ولقد انتهت نتائج بحوث "ثورندايك" إلى علم النفس التربوي.
"وأنا لم أحاول أن أبين كم من نظريات ثورندايك كانت له أصالة بحق، ففي خطوطه الرئيسية كان على وفاق مع النظرية الارتباطية، ولكن "ثورندايك" قد تحدث عن علاقات تقوم بين المنبه و الاستجابة الحركية أولى منها بين فكرة و فكرة" ،  "و يتصور ثورندايك أن التعلم هو عملية إيجاد روابط وارتباطات في الجملة العصبية بين الأعصاب الجاذبة التي يثيرها المؤثر والأعصاب النابذة التي تحرك العضلات التي تستجيب، ويعتقد أن القوانين التي تتحكم في آلية التعلم يمكن إرجاعها إلى الإهمال، وقانون الأثر و مؤداه أن الروابط التي تقود إلى مخرج ناجح من الموقف هي الروابط التي تقوي أو التي تتفوق على غيرها..." 
2-الارتكاس الإشراطي عند "بافلوف"و "بخترف"
      في حوالي 1905م، اكتشف الفعل المنعكس الشرطي في نفس الوقت تقريبا في معملين فيما كان يعرف حينئذ باسم "سانت بطرسبرغ" (لينينغراد)، ولاحاجة لنا في الدخول في مسألة الأسبقية بين المكتشفين: "بافلوف" و"بخترف" الأول فيزيولوجي، والآخر متخصص في الأعصاب. وقد تنافس كلاهما في هذا العمل ودفع كل منهما الآخر إلى نشاط قوي. ولما كان لدينا كثير لنقوله عن "بافلوف" فلنبدأ أولا ب"بخترف" 
      لقد حصلت السلوكية على تأثير قوي من حيث لا تتوقع وبالتحديد من الانعكاسية أو الفعل المنعكس الشرطي الذي كان حينذاك يتطور مستقلا تماما في روسيا على أيدي "بخترف" و"بافلوف" مؤسسي الانعكاسية الروسية...و لقد عمل الأول...عدة تجارب عن ارتباط اصطناعي لمنعكس تنفسي حركي لدى الكلاب، فإن الكلاب تبدي فعلا منعكسا ملحوظا هو تلاحق أنفاسها إذا ما تعرض الجلد لبرودة مفاجئة...وقد لاحظ بخترف أنه إذا ما تكرر وقوي منبه آخر إلى جانب البرودة في الوقت نفسه، فإنه سوف يثير في النهاية عندما يعطى بمفرد نفس المنعكس أي أنه سوف يعمل في الحقيقة كما لو كان بديلا للمنبه الطبيعي المنعكس".  فهو إذن ارتكاس متعلم أو مقترن، وقد تابع "بخترف" وطلابه عملهم بجد و نشاط وأجروا تجاربهم على المصابين باضطرابات عقلية أملا منهم بإلقاء بعض الضوء على الذهان و العصاب وفي إيجاد معالجة موضوعية في الطب العقلي."
       أما "بافلوف" الذي درس في بداية حياته الرهبنة، قبل أن ينتقل إلى الطب ومنه إلى الفيزيولوجيا، خصوصا فيزيولوجيا الهضم الذي استأثر بأعماله قبل أن يلاحظ ملاحظات جعلته يغير اتجاهه في البحث و أن يجري تجارب جديدة أحدثت انقلابا في علم النفس الحديث، خاصة في النظر إلى عملية التعلم و تفسيرها، فمن المعروف أن الكلب يسيل لعابه حين يوضع الطعام في فمه، وهذا فعل منعكس طبيعي reflex غير أن "بافلوف" لاحظ أن الكلب يسيل لعابه أيضا لمجرد رأية الشخص الذي يقدم له الطعام، أو لمجرد سماعه وقع أقدام هذا الشخص وهو قادم؛ أي أن لعابه يسيل قبل أن يوضع الطعام في فمه."
       و في مرحلة تالية انتقل "بافلوف"  للتنويع في تطبيق تجاربه، فهو تارة يتلاعب بعامل الطعام بحيث لا يجري تجاربه إلا عندما يكون الكلب قد وصل إلى حالة الشبع ومن ثم يلحظ كيف أن المنبه المفتعل لا يحدث تأثيره,على العكس في حالة ما إذا رفع حالة الجوع لدى الكلب إلى أقصاها؛ وعندما أجرى تجاربه كانت عملية الافتعال أكبر تأثيرا وأكثر فاعلية في إحداث رد الفعل المصطنع."  إذن فرد فعل الكلب لرؤية الخادم أو لرؤية الوعاء الذي يقدم فيه الطعام بل وحتى سماع خفق نعل الخادم، يكون بإفراز اللعاب، جعل "بافلوف" يسعى لدراسة وظائف المخ ليحول مختبره نحو هذه الغاية.
       و قد استخلص "بافلوف" من تجاربه نظريته عن وظائف الدماغ الذي نسب إليه وظيفتين شاملتين: وظيفة حسية بها محللات تلتقط المؤثرات الخاصة من بين مجموعة الحركات الفيزيائية التي تصدم العضوية باستمرار. والدماغ في هذا يشبه مذياعا لاقطا؛ ووظيفة حركية يكون فيها عمل الدماغ منحصرا في الارتكاسات الإشراطية، ذلك بأن كل سلوك مكتسب، بما في ذلك سلوك الإنسان المعقد لا يخرج عن الارتكاسات الإشراطية"
       لقد رحب علماء النفس بالفعل المنعكس الشرطي أكثر من الفيزيولوجيين، إذ أصبحت المنعكسات الشرطية تدريجيا واحدة من الطرق الرئيسية والمفاهيم الإجرائية للسلوكية"


3-رواد السلوكية:
      كما سبقت الإشارة لذلك فإن"ج.واطسون"هو مؤسس و قائد السلوكية، إلا أنه لا مناص من الإشارة إلى بعض مشاهير السلوكية على قلتهم حتى نبدد الشك في كون السلوكية مدرسة من شخص واحد.
و البداية مع "ماكس ماير" و هو ألماني، عمل أستاذا بميسوري , كما كان عضوا وزميلا لهيئة علماء النفس الأمريكية والجمعية الأمريكية  لتقدم العلم، و هو تلميذ العالم الألماني الكبير "كارل إشتمف"
و عنه أخذ التخصص في سيكولوجيا السمع و في الموسيقى؛ إلا انه نحى فيما بعد نحو دراسة آلية الأذن ودراسة المخ، وقد كتب كتابه عن "القوانين الأساسية للسلوك الإنساني" سنة 1911، وفيه يضع قوانين و أشكالا من الفعل العصبي التي يمكن أن تفسر حقائق الحياة الشعورية و السلوك, كما نشر كتابا آخر بعنوان "سيكولوجية الشخص الآخر" ومن العنوان نستشف أن صاحبه يرى أن الموضوع الحقيقي لعلم النفس هو"الشخص الآخر"  وليس دراسة نفسه، لأن دراسة الآخرين تجبر العلماء على استخدام الطرق الموضوعية.
       ومن زعماء السلوكية أيضا نجد أحد تلامذة "ماير" نفسه وهو "فايس" من جامعة أوهايو وهو دارس لسيكولوجيا الطفل. و في سنة 1925 نشر كتابه: "أساس نظري للسلوك الإنساني" حاول خلاله تبويئ علم النفس مكانة ضمن العلوم الطبيعية. ويؤكد أن سلوك الفرد سلوك اجتماعي، ذلك أن الكائن الإنساني يوجد في محيط طبيعي، وبالتالي -حسب "فايس"- فسلوك الفرد هو بمثابة مثير للفرد الآخر.
      وتجدر الإشارة إلى أن سلوكية "فايس" تختلف عن سلوكية"واطسون" دون أن يعني هذا وجود تعارض بينهما. كما أنه لا تناقض –حسب "فايس"- بين مفهومه لعلم النفس و استعمال الطريقة الاستبطانية في المختبر.
    ونختم بسلوكي بارزو هو "ولتر" من جامعة كلارك، فرغم أنه كان يدرس السلوك إلا أنه لم يكن سلوكيا شأن الكثيرين.فهو يقترح بل يسمي علم السلوك ب"الأنثروبونوميا anthroponomy ومعناه علم الإنسان، فهو يعتقد أن كلمة سيكولوجيا لا يمكن أن تستخدم لدراسة الإنسان، لأنها بالاشتقاق تعني ما هو نفسي، ويقترح "هانتر" لعلمه منهج الملاحظة المباشرة والتجربة،كما يتخذ من السلوك العضوي مادة لموضوعه.
      إن ل"هانتر" آراء ساهمت في إقامة القاعدة النظرية للسلوكية، كما أنه معروف بمساهمته في علم النفس -بغض النظر عن تسميته- ولاسيما اكتشافه الاستجابة المتأخرة/الرجع التخلفي.
تنبيه : المرجوا عدم نسخ الموضوع بدون ذكر مصدره المرفق بالرابط المباشر للموضوع الأصلي وإسم المدونة وشكرا
zakidz