فلسفة سقراط

فلسفة سقراط
رأينا – فى العدد الرابع من هذه المجلة – أن هم الفلاسفة الذين سبقوا سقراط كان
موجهًا إلى الكون وإيجاد السبب الأول الذى نشأ عنه واتخذ منه مظاهره المختلفة ,
وأتى من بعد هؤلاء السوفسطائيون الذين هدموا البحث الموضوعى بشكوكهم
ووضعوا مكانه البحث الذاتى واتخذوه أساسًا يشيدون عليه قواعد الأخلاق وأسس
العلوم , وكان من نتيجة هذه الذاتية أن اضطربت نظريات الاخلاق وشوهت
الحقائق فقد كان يصح فى نظرهم أن يقتنع الفرد بحقيقة ما مادام يراها حقيق ً ة ولو
اختلف الناس معه وكان اختلافهم صوابًا وحكمة .


انتهت هذه الفلسفة إلى سقراط فدرسها دراسة عميقة واستخلص منها فلسفة ولو
أنها تمت إلى الماضى بصلات قوية , إلا أنها مغايرة له فى أهم مظاهرها , بل
هى حد فاصل بينه وبين الفلسفات الإنسانية العظيمة التى تأسست عليها واستسقت
منها وكانت طريقته فى نشرها أن يحاور الناس فى الطريق , يتقدم إليهم متسائ ً لا
متجاه َ لاً ثم يشعرهم بجهلهم ويدخل الشك إلى قلوبهم , وينتهى الحوار بأن يبذر فى
نفوسهم بذور المعرفة الصحيحة , وهو فى كل محاوراته لا يبتعد بهم عما يتصل
فى عقولهم من مسائل الحياة , ذلك لأنه لم يكن يفرق بين تعاليمه الفلسفية وبين
الحياة نفسها .
وتختلف فلسفة سقراط عن فلسفة القدماء فى أنها تركت التجوال فيما وراء الطبيعة
والتنقيب فى العماء الأول , وهبطت إلى الأرض تتخلل نفس الإنسان فأهم
أغراضه أن يعرف نفسه , ويعرف الفضيلة التى شغلت من أبحاثه المحل الأول ,
وكان يفخر بجهله المظاهر الخارجية , وينسب ما يعزى إليه من تفوق عقلى إلى
هذا الجهل .
وتختلف فلسفته كذلك عن فلسفة السوفسطائين , فقد اتخذ نفس الأساس الذى اتخذوا
ليبنى عليه الحقائق إلا أنه وصل إلى نتائج مضادة تمام التضاد مع ما وصل إليه
السفسطائيون.
هم إتخذوا من الذاتية وسيلة يهدمون بها الحقائق الخارجية واتخذها هو لتقرير
الحقائق الخارجية .
كان يسمو بالفكرة الفردية إلى مبدأ عام ثابت له حقيقته وله إستقلاله عن عقول
الأفراد وكان يصل إلى هذه الحقائق معتمدًا على الاستدلال والتعريف المنطقى وقد
قال ارسطو (( مأثرتان تعزوان إلى سقراط : وسيلة الاستدلال , والتعريف
المنطقى وهما اللذان بنى عليهما العلم ))
ولكى نشرح تلك النقطة الهامة نقول إن سقراط كان ينتقل فى محاورته من بحث
سلبى إلى بحث إيجابى , كأن يسأل الناس كما يسأل الجاهل المتعطش إلى المعرفة
, فاذا أفضوا إليه بما تحويه أدمغتهم من المعارف صب عليهم سيلا من الاسئلة
توقعهم بين الحيرة والارتباك وتكشف لهم عن جهلهم حقائق الامور وتبين لهم أن
من الاشياء ما يظهر سهلا بسيطًا لا يحتاج لبحث وهو فى الواقع من أعقد الامور
وأعوصها , هذا هو الجزء السلبى , وإن كثيرا من محاورات سقراط التى وصلت
الينا عن طريق افلاطون تنتهى عند هذا الحد .
وفى أثناء محادثته مع الذى يحاوره كانت تلوح له افكار لم تكن تخطر له على بال
فهو يناقش عدة أمثلة ويلاحظ ما بينها من تباين وتشابه واتصال وانقطاع ثم ينتهى
به البحث والاستدلال إلى تقرير الفكرة العامة كالعدل والسعادة وغيرهما , وهذا
استدلال يرمى إلى تعريف منطقى شامل جامع مانع .
قال ارسطو (( اهتم سقراط بفحص طبيعة الفضيلة كأنه مسألة مسائل الفلسفة ولهذه
الغاية سأل نفسه ما العدل ؟ وما الارادة ؟ لأنه كان يعتقد أن الفضيلة معرفة ))
ولما كانت الفكرة يصح اتخاذها مرشدًا لجميع الاعمال التى تصدر عن أجزائها
كانت الفكرة هى الكائن الحقيقى للأشياء .
ولسقراط رأى فى الأخلاق كان له أثر جليل فى العالم النظرى والعالم العملى ,
كان يرى أن الفضيلة تنبع من المعرفة والعقل وحسن التمييز , فالفعل الذى بلا
ادراك عماء يتناقض مع نفسه والفعل الذى باعثه الادراك لا بد آت غايته , وينبنى
على ذلك أن ليس هنالك شر يقع مع الإدراك أو خير من غير الادراك .
وإنما الادراك الناقص هو الذى يهوى بالناس إلى أعماق الرذائل , ومن هنا نشأ
القول بأن الانسان خير بطبيعته وإنه يساق لارتكاب الرذائل رغم إرادته ومن يفعل
الشر ويصدر ذنبه عن معرفه وادراك خير من الذى يفعله وهو يجهله لأنه فى هذه
الحالة صنع الخير بلا معرفة أو بمعنى آخر بلا فضيلة , أما فى حالة الاولى فقد
أسىء استعمال الفضيلة ولكنها موجودة على كل حال .
وكانت نتيجة هذا الرأى منطقيًا هى إيجاد وحدة لجميع الفضائل , ولما كان فعل
الخير هو فى الواقع إدراك عقلى انتهينا إلى أن هذا الادراك هو واحد مهما كان
اتجاهه مصوبًا إلى أى موضوع من مواضيع الفضيلة ، وثمة نتيجة أخرى عملية
وهى تعليم الفضيلة ما دامت معرفة وإمكان نشرها بين جميع الأفراد بالممارسة .
وهكذا وضع سقراط الحجر الأساسى لنظرية الاخلاق ولكنه لم يحاول السمو بها ,
وكان يحاول الوصول إلى السعادة عن طريق الفضيلة , ونهاية السعادة فى نظره
أن يسمو فوق مطامع الحواس , وأن يتحرر من الرغبات فيرتفع إلى مصاف
الآلهة وأن يثق بقوة الروح وترى من وسيلة سقراط أنه لم تكن له مدرسة , وإنما
كان له تلاميذ , وقد اختلف هؤلاء الاتباع فى فهم فلسفته إلى حد التناقض مع
بعضهم البعض ومعهم ومع سقراط نفسه .
وقد أنشأ ثلاثة من هؤلاء الاتباع أهم المدارس : الأولى المدرسة الكلبية وتتفق
تعاليمها مع تعاليم سقراط فى أن الفضيلة معرفة يمكن تعليمها , وهى مبنية على
التخلص من الرغبات كلها حتى يتوصل إلى السعادة , وقد دعا ذلك بعض أتباعه
إلى الانزواء عن العالم والازراء بقوانينه وتعاليمه ومن أشهر هؤلاء ديوجونيس .
والثانية المدرسة القورينائية , ومؤسسها ارسطيبس وكان يقول : إن السعادة هى
غاية الوجود وفهم منها أنها اللذة , فكل ما يوصل إلى اللذة خير , إلا أنه يلزم
لذلك ألا يترك الانسان لشهوته العنان فتتحكم فى نفسه .
والثالثة المدرسة الميغارية . وقد عرفت الخير بأنه الكائن النقى , فليس مذهبها إلا
تعبيرًا سقراطيًا طرأ على فكرة الآليين .
لم تتمم هذه المدارس فلسفة سقراط , وإنما الذى تممها وزاد عليها وكون نظامًا
فلسفيًا عامًا هو أفلاطون . ولنترك تلخيص فلسفته إلى مقال آخر .
تنبيه : المرجوا عدم نسخ الموضوع بدون ذكر مصدره المرفق بالرابط المباشر للموضوع الأصلي وإسم المدونة وشكرا
zakidz